بعد أن وقف الرجل لبعض الوقت وسط سحابة من الغبار والرذاذ، وقد اتسخت ياقة قميصه البيضاء وتكرمشت، راح يتسلق بعناء ركاماً من الخرسانة المفتتة والحديد الملتوي، الناتجة عن انهيار بناء. ورغم أنه كان يبدو متعباً، فإن تصميمه كان واضحاً، خصوصاً وهو ينطق بعبارات التشجيع لفرق الإنقاذ، التي كانت تعمل في الموقع، وذلك قبل أن يهبط في النهاية من الكومة، ليجلس مع الأمهات المكلومات، شاداً على أيديهن معزياً، ومشاطراً إياهن في أحزانهن. لا... لم يكن هذا جورج بوش في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، وإنما الرئيس الصيني "هو جينتاو" الذي كان يتفقد المناطق التي ضربها الزلزال في جنوب غربي الصين. صورة "جينتاو" وهو يتعثر في طريقه وسط الأنقاض للتخفيف عن الناجين ومواساة أهالي الضحايا، هي صورة لم نعتد رؤيتها بالنسبة للقادة الصينيين، الذين يتصرفون عادة كأباطرة. وما رأيناه من الرئيس الصيني ليس سوى علامة على المدى الطويل، الذي يمكن أن تُجبر به مناسبة استضافة الدورة الأولمبية القادمة، الصين على ابتلاع قدر من التغيير أكثر مما تستطيع معدتها هضمه. مع ذلك فإن معظم المراقبين المختصين في الشأن الصيني يؤمنون أن هذه الدورة التي ستبدأ في الثامن من أغسطس لن تغير الصين كثيراً. فهم يرون أن الطريقة التي غطت بها وسائل الإعلام الصينية التي تديرها الدولة، أنباء التظاهرات والاضطرابات التي وقعت في سان فرانسيسكو، ولندن، وباريس احتجاجاً على مرور الشعلة الأولمبية يمكن أن تعطي فكرة مسبقة عن الطريقة التي ستتصرف بها الدولة الصينية إذا ما وقع حدث مؤسف أثناء الأولمبياد، والتي ستكون على النحو التالي: قطع البث الحي، وإذاعة مواد مسجلة سابقة والاستمرار في إذاعتها حتى ينتهي الحدث المؤسف أو تزال أثاره، ثم العودة مجدداً إلى البث الحي. هذا فيما يتعلق بنمط التغطية الإعلامية المزمعة، أما الخطة الصينية للدورة فهي بسيطة وتقوم على ما يلي:"التنظيم الجيد، والفوز بأكبر عدد من الميداليات الذهبية، وتهميش المعارضين، وإظهار العظمة الصينية للعالم، وتسليط الضوء على ثمار ثلاثة عقود من التحديث. مع ذلك فإن التغيير في الصين بات أمراً لا مناص منه بعد أن أدركت السلطات هناك أن الثمن الحتمي الذي يتعين عليها أن تدفعه للحصول على أضواء الأولمبياد، وإظهار عظمتها، هو تعريضها لمزيد من الضغوط الداعية للتغيير. التغير الصيني إذن لا مناص منه. وليس هناك في الحقيقة من مجال يمكن اتخاذه دليلاً على ذلك أوضح من مجال السياسة الصينية تجاه السودان. فعلى الرغم من أن الحكومة الصينية قد غضت الطرف عن مصرع مئات الآلاف من السودانيين في إقليم دارفور، بحجة أن علاقتها بالسودان "خالية من أي شروط سياسية" أو ليس لها علاقة بالسياسة إلا أن هذا الموقف تغير بعد ذلك، عندما بدأ الرئيس الصيني "هو جينتاو" يمارس ضغطاً على الرئيس السوداني لإقناعه بقبول قوة حفظ سلام مشكلة من قوات أممية- أفريقية من أجل إيقاف نزيف الدماء. بعد ذلك قامت الصين بوضع نهاية للوضع التفضيلي، الذي كانت تتمتع به السودان في علاقاتها مع الصين، كما قام مبعوث صيني خاص بزيارة غير مألوفة تماماً بالنسبة للصينيين، توقف أثناءها في معسكرات اللاجئين، واطلع على الأحوال بها ووجه انتقادات للحكومة السودانية على ما آل إليه الوضع في الإقليم. والتغير طال أيضاً السياسة الصينية تجاه "ميانمار". فعناوين الصحف الصينية الرئيسية التي أبرزت المساعدات التي قدمتها الصين لجارتها الآسيوية بعد الإعصار الرهيب الذي تعرضت له الشهر الماضي، كانت تغطي في الحقيقة على التغير الذي حدث في تعامل الصين مع النظام الحاكم في ميانمار. وعلى الرغم من أن بكين غضت الطرف في البداية عن قمع النظام لتظاهرات الرهبان السلمية ضده، فإن ما حدث بعد ذلك عندما تحولت تلك التظاهرات لتصبح في بؤرة اهتمام جماعات حقوق الإنسان، والحقوق المدنية، وهو ما كان يهدد بإحراج بكين في الشهور الحرجة التي تسبق انطلاق الدورة، لم يجد القادة الصينيون مفراً من تغيير اتجاههم ومواقفهم تجاه ذلك النظام حيث تخلوا عن معارضتهم لقرار مجلس الأمن الدولي، الذي يدين فيه النظام الحاكم في بورما وعملوا على تخفيض مبيعاتهم من الأسلحة له. والمرونة الصينية الجديدة في مجال السياسة الخارجية لم يقابلها اهتمام مناسب بحقوق الإنسان في الصين ذاتها. لكن يمكن القول إن بذور التغيير قد نُثرت بالفعل في التربة الصينية وأنها تتبلور الآن في صورة "حمية وطنية". فالحمية الوطنية الصينية عادة ما تتأجج ضد أي شخص أو مؤسسة أو دولة يعتقد الصينيون أنها تحاول تخريب لحظة الصين الأولمبية وهناك العديد من الأمثلة على ذلك منها أن سلسلة محلات "كارفور" الشهيرة قد تدنت مكانتها لدى الصينيين بسبب ما يرونه من دعم فرنسي لقضية التبت، كما أن محطة "سي.إن.إن" تتعرض لغضب الوطنيين الصينيين واحتقارهم بسبب تغطيتها السلبية للشأن الصيني. وهنا يمكننا أن نفهم سبب الاهتمام الذي أبداه "جينتاو" تجاه ضحايا الزلزال في بلده. فعلى الرغم من أن هذا الاهتمام ينطوي على بعد إنساني مؤكد، فإن الرئيس الصيني قام به لأنه يعلم أن الحمية الوطنية الصينية النابعة من الاهتمام بالأولمبياد والتي تتمثل الآن في صورة نمر يزأر في وجه الغرب، يمكن أن تنقلب في أي لحظة ضد الحكومة وضد الحزب الشيوعي إذا ما عجزا عن الوفاء بالتزاماتهما للشعب. وهذا تحديداً ما دفع المسؤولين الصينيين وعلى رأسهم الرئيس نفسه، إلى تشمير أكمام قمصانهم والتوحد مع هذا الشعب في لحظة محنته. ــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"